• رفاهية الاكتئاب ! فالاكتئاب حق مشروع

    مقاله جميله جدا للكاتب نبيل شرف الدين

    ليس أمام “صاحبكم” هذه الأيام من خيار سوى التواري خلف ظله، محتميًا من منظومة الحزن والعدمية التي تُخيِّم على “الشرق الأتعس”، فالملايين من أبناء البسطاء أمثالي، الذين لا يملكون ما يراهنون عليه سوى أنفسهم وكدِّهم وجدِّهم، ليس بوسعهم الاستمتاع بـ”رفاهية الاكتئاب”.

    فالمكتئب لا بد أن تتوافر لديه الحدود الدنيا من سبل الحياة، حتى يدخل عباءة الاكتئاب ويرقد في سلام، لكن هؤلاء الذين تتعلق برقابهم مسؤوليات من طراز الأسرة والأبناء والزملاء و”المؤلفة قلوبهم”، لا يمكنهم أن يُلقوا عن كاهلهم كل هذه الأعباء بقرار اكتئاب، وإلا تحولوا من مرضى يستحقون الشفقة والعطف، إلى “مجرمين” تنبغي محاكمتهم بتهمة الأنانية وتورُّم الذات وتجاوز “فضيلة التواضع”.
    الاكتئاب رفاهية لهؤلاء المنوط بهم مقاومة “العدمية” التي باتت سمة عامة في أوساط المصريين خاصة، والعرب عمومًا، يمكن أن تلمس ذلك في أي مناقشة من أي نوع، سواء كانت في الرياضة أو السياسة.. لا فرق، ستسمع إجابات “عدمية” تضعك على حافة اليقين بأن نهاية العالم باتت قاب قوسين أو أدنى.. وأن أفضل شيء ألا تفعل شيئًا ولا تنطق بكلمة ولا تراودك فكرة.
    لهذا فإن صاحبكم المسكون بـ”التفاؤل الإجباري” له أحيانًا تجليات كالطفولة حين لا نفهمها، ولديه أيضًا وهم هائل بحجم الكون اسمه الحياة، التي كلما سحقته قال لها تبًّا لكِ.. لست سوى مساحة متخمة بالخديعة والفراغ.. ومع ذلك أحبك يا “بنت الإيه”.. هل هذه ماسوشية من نوع ما؟

    ………..

    منذ قرن ونيف.. لا تفارق مخيلة “صاحبكم” صورة لامرأة خرافية.. لم تكن أبدًا.. وربما لن تكون، ومع ذلك فهي ضاربة في الحضور والغياب، إلى حد الاستعصاء، طارت ذات أمسية كالحمامة البرية لكن لا تزال رائحتها عالقة في كيانه، وطعم ابتسامتها يسكن مخيلته.. امرأة تبدو مثل “مدينة فاضلة” خرافية بناها آخر حكام الكون العادلين.. امرأة تختزل كل معاني الإنسانية في نظرة.
    “أجمل النساء هن المستعصيات”.. هذه الفكرة طالما راودت “صاحبكم” عن نفسه خاصة في “نوبات الفلسفة” التي تدهمه.. يحدث هذا عادة في ليالي الشتاء الباردة، وكالعادة أيضًا كان وحيدًا إلا من هواجسه، وحينها باغتته رغبة عارمة في البكاء من دون أن يدري سببًا لذلك، فراح يصرخ في الصورة العالقة على الجدار منذ قرون.. تلك الصورة التي لا يستطيع الاقتراب منها أو الابتعاد عنها، وأقصى ما بوسعه أن يفعله بها أن يمسح عنها الغبار.
    قال لها ذات شتاء كئيب: أحبك جدًّا، ولكن.. فردت: أحبك جدًّا من دون لكن هذه.
    قال لها: أنا رجل مهزوم مسبقًا، أحمل أكوامًا من الخيبات على كاهلي.. فردت: أجمل الهزائم هي التي تعرفها وتعترف بها وتتصالح معها.
    لكن الهزائم كثيرة.. والنساء قاسيات حين يرغبن بذلك، هكذا راح يهمس لنفسه قبل أن يمضغ لقمة كأنه يتعذب بالتهامها، ولا يتلذذ بالطعام كما تفعل الكائنات الحيَّة، والمثير للسخرية أنه مضى في ابتلاع الكسرة الجافة بإصرار إلى حد السعال الخانق.

    ………..

    في المدينة المتوحشة يتجول “صاحبكم” دون هدف حتى الفجر، يسكنه شعور العاشق المهجور كنافذة بيت قديم، يضرب رأسه التي يصعب التعايش مع أفكارها في أعمدة الإنارة وأرصفة الطريق، لا يعنيه أن يراه أحد.. ما عساهم أن يقولوا.. مجنون؟
    وكمخرج “عملي” قرر “صاحبكم” أن ينسى وجوه من أحبهم ومن كرههم، أن يتغافل عن ملامح البيوت والشوارع، وأن يتجاهل كونه الوريث الشرعي لكل هذا الخراب.. قرر أن يتجاوز حقيقة قدرية أنه أحد الكائنات المطعونة بالظهر والصدر، وبكل الأحلام المبتسرة شأن كل البؤساء الذي كُتب عليهم الركض حتى خطّ النهاية الوهمي للكون.
    قرَّر أن يهجر المدن الآيلة للسقوط، وأن يرتدي معطفًا يقيه اللعنات والشتائم، والذكريات، وأن يعتلي حصانه الخشبي ليخوض أكبر معركة وهمية في التاريخ، بينما يسكنه إيمان راسخ بأن المقاتل المثالي في هذا الزمان هو الذي يعلن هزيمته طواعية قبل أن يعلنها العدو، وهو الذي يقبل خسارته قبل التفكير بالمعركة، وحتى قبل أن يحاول لمس سيفه المغروز في لحمه، ودمه، ودموعه.

    ………..

    وعلى حواف المدينة المتوحشة يعيش “صاحبكم” الوجود المؤقت.. والهوية المؤقتة، في مدينة تبتلعه صباحًا وتبصقه آخر النهار، ينظر إلى أشيائه المبعثرة هنا وهناك.. ويأمر نفسه: “كوني على ما يرام”، فتكون.. “كوني متفائلة”، فتسكن بساتين التفاؤل، يدخل في ذاته ويرتديها بعناية، يحرص ألا يدع أدنى مساحة لأدنى اختراق محتمل.. ثم يتخذ سمت الحكماء كمن يُطمئن نفسه قائلاً: ثمة وقت كافٍ لسيجارة أخرى.. ثمة فرصة للأمل.. ألم أقل من البداية إن الاكتئاب رفاهية لا يحقُّ لأمثال “صاحبكم” الاستمتاع بها.




1تعليق من اصدقائي

  • emmyehab

    الخميس 7 أبريل 2011 الساعه 06:55:29 مساءً

    حلووووووووووووه اووى والله جاااامده

اترك رد - رأيك يهمنى :)